وَفِي الْقَلْب قِنْدِيْل يَتَوَهَّج ..
وَأَتَانَا رَمَضَان ..
فُرْصَة الْعُمْر الَّتِي طَالَمَا مَر طَيْفُهَا فِي أَحْلَام يَقْظَتِنَا، هَاهِي تُمْنَح لَنَا مِن جَدِيْد ، وَالْصَّفْحَة الْبَيْضَاء الَّتِي تَمِنَيْنَاهَا أَن تَفْتَح فِي سِجِل أَعْمَارِنَا، هَاهِي تُفْتَح خَصَّيْصَا مِن أَجْلِنَا .. وَبِأَسَمَائِنا ..
نُدْرَك أَن كُل الْأَلْوَان جَمِيْلَة، وَلَكِن .. لِلْنُّور لَوْن أَجْمَل !
وَأَن كُل حُلَل الْمُلُوْك قَشِيْبَة، لَكِن حُلَّة الْإِيْمَان أَثْمَن ..
وَنُدْرِك أَن لِكُل نَوْع مِن الْشُّعُوْر إِحْسَاس وَنَبْض وَمَعْنَى .. لَكِن مَشَاعِر الْمُؤْمِن لَحْظَة اسْتِقْبَال رَمَضَان تَفُوْق كُل مَعْنَى .. وَلِهَذَا نُخْفِق حُبّا كُلَّمَا لَاح هَلَالُه، وَتَغْمْرْنا نَشْوَة الْفَرَح كُلَّمَا ذُكِر اسْمُه الْغَالِي .. رَمَضَان !
******
***
فِي الْحَيَاة ..يُؤْمِن الْنَّاس كَثِيْرَا بِالْخَوَارِق وَالْمُعْجِزَات أَن تَأْتِي، فَتَغَيَّر مَجْرَى حَيَاتِهِم لِلْأَجْمَل، وَتِنْتَشِلَهُم مِن أَحْزَانِهِم بِلَمْح الْبَصَر، يَنْتَظِرُوْن تِلْك الْعَصَا الْسِّحْرِيَّة الَّتِي تُقَلَّب بُؤْسَهُم إِلَى فَرَح .. وَلَا يَمَلُّوْن الانْتِظَار ..
كَثِيْرَا مَا وَقَفُوْا أَمَام بَرَكَة الْأُمْنِيَات، وَأَلْقَوْا فِيْهَا نَقُوْدَا مَعْدِنِيَّة، وَتَمَنَّوْا أُمَنِيَّات أَرَادُوهَا بِشِدَّة .. ثُم مَضَوْا وَقَد رَبَطُوا مُسْتَقْبَلِهِم بِخُرَافَة..
وَأَمَام قَالَب الْحَلْوَى فِي أَيَّام مِيْلادِهِم كَم أَضْمَرُوا مِن أُمْنِيَات سَعِيْدَة قَبْل إِطْفَاء الْشُّمُوْع، رَاغِبِيْن أَن تَتَحَقَّق ..
وَكَم جَنَت عَرَّافَات الْأَرْض مِن مَال لِقَاء مَا تَهْمِس بِه كَذِبَا عَن مُسْتَقْبَل سَعِيْد مُشْرِق آَت عَن قَرِيْب لِيَمْلَأ الْحَيَاة بَهْجَة وَسُرُوْرا ..
الْأُمْنِيَات لَا تَنْتَهِي .. وَالْبُحَّث عَن الْسَّعَادَة أَيْضا لَا يَنْتَهِي ..
وَإِذَا لَم نُخْطِئ فِي اخْتِيَار مَا نَتَمَنَّاه، فَلَابُد وَأَنَّنَا أَدَرْنَا دَفَّة السَّفِيْنَة نَحْو الْوِجْهَة الْخَطَأ، وَنَحْن نَظُن بِأَنَّنَا نَقْصِد جَزِيْرَة الْسَّعَادَة؛ فَنبْتُعد عَنْهَا، رَغِم أَنَّهَا تَكُوْن الْأَقْرَب إِلِيْنَا ..
وَرَمَضَان هُو تِلْك الْجَزِيْرَة آَسِرَة الْجَمَال بَيْن شُهُوْر الْعَام، تِلْك الَّتِي يُقْصَد وَجَّهَتْهَا الْرَّاغِبُون بِالتَّغَيُّر، الْبَاحِثُوْن عَن الْنَّوْر، عَلَى شَوَاطِئِه تَرْسُو سُفَن الْمُتْعَبِيْن مِن الْحَيَاة وَمُشْكِلَاتِهَا، فَلَا تُغَادر إِلَا مُحَمَّلَة بِالْخَيْرَات، وَلَا يُبْحِر عَنْهَا الْمَلِاحُوْن إِلَا وَقَد قَرَّت أَعْيُنَهُم بَعَطَايَا الْكَرِيم الْمَنَّان ..
******
***
كُل عَام ..يَتَجَدَّد الْمَوْعِد مَعَه، فيَحْتَفِي بِه مِن يَحْتَفِي، وَيَحْصُد الْسَّعَادَة مِن جَد فِي طَلَبِهَا، وَيَغْفُل عَنْهَا مَن أَطْفَأ الْمُنَبِّه الْدَّاخِلِي، فِي لَحَظَات عُبُوْرِه، فَلَم يَسْتَيْقِظ إِلَا بَعْد رَحِيْلِه ..
وَكُل عَام .. نُحَدِّث أَنْفُسَنَا عَن فُرْصَة الْعُمْر لَعَلَّهَا تَأْتِيَنَا، عَن لَحْظَة قَد نُوْلَد فِيْهَا مِن جَدِيْد، عَن صَحِيْفَة سَوْدَاء نَتَمَنَّى لَو طَوَيْت، وَعَن رَغَبَات كَثِيْرَة نَتَمَنَاهَا لِّنَغْدُو مِن جَدِيْد أُنَاسَا صَالِحِيِن .. وَيَمْضِي الْعَام .. وَنَنْسَى الْتَّارِيْخ الْأَهَم ..
نَنْبُش فِي أَيَّامِنَا عَن ذَلِك الْيَوْم الْسَّمِيْن الْمُكْتَنِز بِالْخَيْر، عَن لَحَظَات الْغَنِيمَة الْبَارِدَة فِي حَيَاتِنَا، عَن الْكُنُوْز الْمَنْسِيَّة تَحْت أَنْقَاض أَعْمَارِنَا .. فَنُدْرِك أَنَّهَا قَد ضَاعَت مِنَّا يَوْم رَحِيِل رَمَضَان .. وغِيَابِنا عَنْه..!
أَوَلَيْسَت الْأَعْمَار فُرْصَة، وَالْأَوْقَات كُنُوْز ؟
هَاهُو شَهَر فِي الْعَام يَأْتِيَنَّا كَأَجْمَل فُرْصَة فِي الْعُمُر، وَأَثْمَن كَنْز فِي الْحَيَاة، لِيَجْعَلَنَا مَعَه وَبِه نُوْلَد مِن جَدِيْد..
******
***
وَيَمْضِي الْعُمْر ..أَرْوَاحُنَا فِيْه بَيْن مَد وَجَزْر .. نَتَمَنَّى لَو أَنَّنَا أَكْثَر قُوَّة، أَقْوَى إِيْمَانَا، أَشَد عَزِيْمَة، أَنْهَض هِمَّة، أَجْمَل قَلْبِا ..
نَشْتَاق لِلَحَظَات الْصَّفَاء، نَتَوْق لِلُقْيَاهَا وَأَدْخِنَة الْحَيَاة تَتَصَاعَد حَوْلِنَا ..
لِيَأْتِيَنَّا بِحُلَّتِه الْمُضِيئَة فِي لُجَج الْخَوْف وَالْقَلَق وَالرَّهْبَة مِن الْمَجْهُوْل، فُيُنِيْر لَنَا حَيَاتِنَا، وَيُحَدِّد وُجْهَتُنَا، وَيَقُوْدُنَا نَحْو الْمَسَار الصَّحِيْح ..
فَالصَّوْم يُعَلِّمُنَا تَهْذِيْب الْنَّفْس عَلَى الْخَيْر وَالْطَّاعَة، وَيُنَقِّي كُل جَارِحَة مِن جَوَارِحِنَا بِالْطَّاعَة، يُعَوِّدَهَا عَلَى لُغَة الْطُّهْر، وَيَغْسِلُهَا مِن كُل خُبْث .. يَرْفَعُهَا عَن الْدَّنَايَا، وَيَأْخُذُهَا إِلَى عَالِم مَن الْنُّوْر كُلَّمَا أَوْغَل الْمَرْء فِيْه .. تَدَفَّقَت فِي شَرَايِيْنِه أَنْهَار الْخَيْر فَعَمَّت حَيَاتِه بِالْنَّجَاح وَالْسَّعَادَة فَوْق مَا يَتَمَنَّى ..
هُو مَوْسِم تُوَحِّد الْقُلُوْب عَلَى الإِيْمَان، وَإِثْبَات عُبُوْدِيَّتِهَا الْخَالِصَة لِلَّه تَعَالَى .. وَقَد فَرَّقْتَهَا مُشْكِلَات الْدُّنْيَا وَهُمُوْمِها، فَلَن يَجْمَعُهَا الْآَن إِلَّا الْنَّقَاء فِي رَمَضَان، وَالْصَّوْم وَاحِد، وَالْفِطْر وَاحِد، وَالرَّغْبَة فِي الْإِصْلَاح كَبِيْرَة وَالْكُنُوز وَفِيْرَة..
وَهُو شَهْر الْمُسَاوَاة بَيْن الْغَنِي وَالْفَقِيْر، يَفْتَح صَفْحَة التَّوَاصُل بَيْنَهُمَا مِن جَدِيْد، وَالْتَّقَارُب عَلَى لُغَة الْمَحَبَّة، فَهَذَا يُعْطِي، وَذَاك يَسْعَد، وَهَذَا يُبْذَل وَذَاك يَشْكُر ..
وَهُو فُرْصَة رَائِعَة لِلْتَّعْبِيْر عَن الْوَحْدَة بِأَشْكَالِهَا، وِحْدَة فِي الْعِبَادَة، وَوَحْدَة فِي الرَّغْبَة بِالْتَّغْيِيْر نَحْو الْأَفْضَل، وَوَحْدَة فِي نَبْذ الْعَوَائِق وَالْسُّدُوْد الَّتِي تُحْجَز الْمُؤْمِن عَن طَرِيْقِه الَّذِي ارْتَضَاه الْلَّه فِي الِاسْتِقَامَة وَالْسَّعَادَة ..
وَهُو شَهْر الْتَنَوُّع فِي الْعِبَادَات، فَالصَّوْم لِلَتَّنْقِيَة وَالْتَّزْكِيَة، وَالْقُرْآَن دُسْتُوْر يُعَلِّمُنَا أَبْجَدِيَّة حَيَاة الْسُّعَدَاء, وَيَرْفَعُنَا إِلَى سَمَاء الْأَنْقِيَاء .. وَالْصَّلاة قُرْبَى وَرَفَع لِهِمَّة وَاغْتِنَام لِخَيْر، وَالْصَّدَقَة مِفْتَاح الْسُّرُوْر وَالْتَّقَارُب بَيْن الْمُؤْمِنِيْن، وَالْدُّعَاء بَاب مَفْتُوْح لَا يُخَيِّب مَن قَصَدَه، وَلَا يُضَيِّع مَن سَلَك طَرِيْقَه ..
وَالتَّوَاصُل بَيْن الْبَشَر مَشْرُوْع حَضَارَة فِي الْأُمَّة، تَبْدَأ مِن صِلَة مَع الْأَقَارِب، وَتَمْتَد إِلَى كُل أَهْل الْأَرْض مَحَبَّة وَوِئَامُا ..
إِنَّه شَهْر يُعَلِّمُنَا مَعْنَى أَن نَحْمِل الْرِّسَالَة بِرُقِي ونُبَلِّغَهَا بِحَضَارَة، فَكَمَا يُعَرِّف كُل أَهْل الْأَرْض رَمَضَان بِهِلَالِه وَقَنَادِيْلَه، يَجْدُر بِنَا أَن نُرِيْهِم ذَلِك الْجَمَال الْكَامِن فِي شَعَائِرِه وَعِبَادَتِه ..
فَمَن كَان يُفَتِّش فِي حَيَاتِه عَن فُرْصَة لِتَجْدِيد الْعَزِيْمَة، وَبَنَّاء الْنَّفْس، فَلْيَلْجَأ إِلَى الْلَّه فِي هَذَا الْشَّهْر مُقَوِّمَا لِنَفْسِه مُتَعَبِّدَا مُصْلِحَا دَاعِيَا ..
وَمَن أَمْسَك قَلَمْا يَرْسُم بِه مُسْتَقْبَلَا زَاهِرا ، فَليَرْسْم فِي زَاوِيَة عُمُرِه حَدِيْقَة غَنَّاء مُوَرِقَّة، يُكَلِّلُهَا الْزَّهَر وَالْرَّيْحَان، وَلْيُطْلَق عَلَيْهَا اسْم " رَمَضَان "
وَمَن أَتْعَبَتْه صِرَاعَات نَفْسِه، وَتَمَنَّى لَو تَغْلِب عَلَيْهَا، فَلْيَسْلُك دَرْب الْإِيْمَان فِي هَذَا الْشَّهْر، فَلَن تَضِيْع وَجَّهْتَه ، وَلَن يُضِل أَبَدا طَرِيْقِه..
******
***
لَحَظَات لَا تَنْسَى ..
كَم مِن لَحْظَة فِي الْعُمُر تَمُر بِنَا ذَات صَفَاء فَتَنِقَيْنا، وَتُشْعِرُنَا أَنَّنَا حَقّا نَجَحْنَا فِي الْتَّغْيِيْر نَحْو الْأَفْضَل !
وَكَم لَحْظَة فِي الْعُمُر تُسَاوِي الْعُمُر كُلِّه، إِذ أَنَّهَا تُقَلَّب الْمَوَازِيْن، وَتُرَتِّب الْنُّفُوْس الْمُتْعَبَة، وَتَعَطَّر الْرُّوْح فَتُفْلِح إِذ زَكَّاهَا إِيْمَانُهَا ..
وَكَم مِن لَحْظَة فَارِقَة صَنَعْت أَبْطَالِا فِي الْحَيَاة، لِمَا صَدَقُوْا مَع أَنْفُسِهِم، فَأعْمِرُوا الْأَرْض سَلَاما وَنُوّرا ..
مَاذَا إِن عَزَمْنَا أَن تَكُوْن نُقْطَة الْتَّحَوُّل هَذِه فِي رَمَضَان؟ إِذ أَن الْنُّفُوْس مُهَيَّأَة، وَالْقُلُوْب مُشْتَاقَة لِلْفَلَاح ؟ مَاذَا إِن تَعَاهَدْنَا أَن نَتَغَيَّر، وَتَسَابَقْنا لِلْأَفْضَل، وتَنَافُسَنا عَلَى دَرْب الْخَيْر ؟ أَلَّن نُفْلِح وَنَرْتَقِي وَنَعُوْد لِنَقُود الْأُمَم بِرُقِي الْإِسْلَام وَحَضَارَتِه ؟ رَمَضَان لَيْس مُجَرَّد شَهْر يُعَبِّر مِن الْهِلَال إِلَى الْهِلَال وَيَمْضِي دُوْن أَثَر ..
رَمَضَان هَدِيَّة الْرَّحْمَن.. شَمْس تُشْرِق فِي الْحَيَاة، لتَتَوَهج عِبَرِهَا قَنَادِيْل الْقُلُوْب بِنُوْر آَسِر عَجِيْب .. فَلْنَعْمَل فِي كُل لَحْظَة عَلَى أَن نَسْتَضِيْء فَنَتَوَهج .