$$ في الشام.. $$
انتصر المسلمون على أقوى جيوش العالم
---------------------
كانت بلاد الشام قبل دخول الإسلام إليها من أهم مناطق الدولة البيزنطية (الرومانية) وكانت مدنها مراكز دينية هامة في الشرق القديم..
بعد سقوط بصرى أدرك هرقل امبراطور الروم أن مستقبل الشام بات في خطر
حيث إنها كانت في بداية عصر انتشار الإسلام تشكّل مركز الإمبراطورية الرومانية الشرقية ولها أهميتها في الإمبراطورية، وفي عهد الخليفة أبي بكر الصديق.
الصديق يختار قادة جيوش المسلمين
جهّز الخليفة أبو بكر الصديق أربعة جيوش عسكرية، واختار لها أكفأ قواده، وأكثرهم مرانًا بالحرب وتمرسًا بالقتال، وحدد لكل جيش مهمته التي سيقوم بها؛ فكان الجيش الأول تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان، ووجهته "البلقاء" وهي اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية، وكان الجيش الثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة، ووجهته منطقة "بُصرى"، وجعل الصديق قيادة الجيش الثالث لأبي عبيدة بن الجراح، ووجهته منطقة "الجابية"، وقد لحق خالد بن سعيد بن العاص بجيش أبي عبيدة فيما بعد، أما الجيش الرابع فكان بقيادة عمرو بن العاص، ووجهته "فلسطين"، وأمرهم أبو بكر الصديق بأن يعاونوا بعضهم بعضًا، وإذا اجتمعوا معًا فالقيادة العامة لأبي عبيدة بن الجراح.
وصية الصديق لقادة الجيوش الأربعة
وكان الصديق كلما خرج لتوديع جيش من الجيوش الأربعة يوصي قائده بوصايا جامعة، تبيّن سلوك الفاتحين المسلمين وأخلاقهم في التعامل مع أهالي البلاد القادمين إليها؛ إذ إنه قال ليزيد بن أبي سفيان: "إني موصيكم بعشر كلمات فاحفظوهن: لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًا صغيرًا ولا امرأة، ولا تهدموا بيتًا ولا بيعة، ولا تقطعوا شجرًا مثمرًا، ولا تعقروا بهيمة إلا لأكل، ولا تحرقوا نخلاً ولا تُغرقوه، ولا تعص، ولا تجبن…".
وجاء في وصيته لـعمرو بن العاص: "إياك أن تكون وانيًا عما ندبتك إليه، وإياك والوهن، وإياك أن تقول: جعلني ابن أبي قحافة في نحر العدو ولا قوة لي به، واعلم يا عمرو أن معك المهاجرين والأنصار من أهل بدر، فأكرمهم واعرف حقهم، ولا تتطاول عليهم بسلطانك.. وكن كأحدهم وشاورهم فيما تريد من أمرك، والصلاة ثم الصلاة، أذّن بها إذا دخل وقتها، واحذر عدوك، وأمر أصحابك بالحرس، ولتكن أنت بعد ذلك مطلعًا عليهم..".
وكان مجموع تلك القوات نحو 24 ألف مقاتل، وقد نجحت تلك الجيوش في التوغل في جنوب الشام، واشتبكت في مناوشات صغيرة مع الروم، واضطر قيصرهم إلى حشد ما يملك من قوات وعتاد حتى يدفع جيوش المسلمين التي أقبلت، ولا هم لها سوى فتح تلك البلاد ونشر العدل والمساواة فيها، ولما رأى المسلمون ما يحشده الروم من قوات ضخمة أرسلوا إلى الصديق يخبرونه بحالهم ويطلبون منه المدد، فأمدّهم بعكرمة بن أبي جهل ومن معه من الرجال، وكان الصديق قد استبقاهم في المدينة تحسّبًا لأي طارئ أو مفاجأة تحدث في أثناء الفتح، غير أن جبهة القتال لم يحدث فيها تغيير، ولم يغير المدد شيئًا مما يجري، وتجمد الموقف دون قتال يحسم الموقف في الوقت الذي كان فيه خالد بن الوليد في جبهة العراق ينتقل من نصر إلى نصر، ولذلك استعان الخليفة أبو بكر الصديق بالقائد خالد بن الوليد، وكان الصديق أكثر الناس ثقة في كفاءة خالد وقدرته العسكرية، فأطلق كلمته السائرة التي رددتها كتب التاريخ: "والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد".
وبعث الصديق إلى خالد بأن يقدم إلى الشام ومعه نصف قواته التي كانت معه في العراق، حتى يلتقي بأبي عبيدة بن الجراح ومن معه، ويتسلّم القيادة العامة للجيوش كلها، وفي الوقت نفسه كتب الصديق إلى أبي عبيدة يخبره بما أقدم عليه، وجاء في كتابه: "فإني قد وليت خالدًا قتال الروم بالشام، فلا تخالفه، واسمع له وأطع أمره، فإني قد وليته عليك، وأنا أعلم أنك خير منه، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك سبل الرشاد والسلام عليك ورحمة الله".
وامتثل خالد بن الوليد لأوامر الصديق، وخرج من العراق، ثم سار حتى وصل إلى أبي عبيدة بالجابية؛ فالتقيا ومضيًا بجيشهما إلى "بُصرى"، وحاصرا "بُصرى" حصارًا شديدًا، واضطرت إلى طلب الصلح ودفع الجزية، وفي السنة 13 هـ تم فتحها، وكانت أول مدينة فُتحت من الشام صلحًا على أن يؤمن أهلها على دمائهم وأموالهم وأولادهم، نظير الجزية التي سيدفعونها.
قلعة الأردن
معركة أجنادين
بعد سقوط "بُصرى" أدرك هرقل إمبراطور الروم أن مستقبل الشام بات في خطر ما لم يواجه المسلمين بكل ما يملك من قوة وعتاد، فحشد العديد من القوات الضخمة، وبعث بها إلى "بُصرى" حيث يوجد بها شرحبيل بن حسنة مع قواته المحدودة، وفي الوقت نفسه جهّز جيشًا ضخمًا، ووجّهه إلى أجنادين من جنوب فلسطين.
تجمعت الجيوش الإسلامية عند أجنادين، ونظّم خالد بن الوليد جيشه البالغ نحو 40 ألف جندي، فهذه أول مرة تجتمع جيوش المسلمين في الشام في معركة كبرى مع الروم الذين استعدوا للقاء بجيش كبير من الروم بلغ 90 ألف جندي.
وأخذ خالد يحث الجنود على القتال والصبر والثبات، ويشد من أزرهم، وأقام النساء خلف الجيش يبتهلن إلى الله ويدعونه ويستصرخنه ويستنزلن نصره ومعونته، ويحمسن الرجال.
وأمر خالد جنوده بالتقدّم حتى يقتربوا من جيش الروم، قائلاً: "اتقوا الله عباد الله، قاتلوا في الله من كفر بالله ولا تنكصوا على أعقابكم، ولا تهنوا من عدوكم، ولكن أقدموا كإقدام الأسد وأنتم أحرار كرام، فقد أبيتم الدنيا واستوجبتم على الله ثواب الآخرة، ولا يهولكم ما ترون من كثرتهم فإن الله منزل عليهم رجزه وعقابه، ثم قال: أيها الناس إذا أنا حملت فاحملوا"، وقال: احملوا رحمكم الله على اسم الله" فحملوا حملة صادقة زلزلزت الأرض من تحت أقدام عدوهم، وانطلق الفرسان والمشاة يمزقون صفوف العدو فاضطربت جموعهم واحتلت قواهم.
فلما رأى قائد جيش الروم أن الأمر خرج من يده، وأن الهزيمة واقعة لا محالة بجنوده قال لمن حوله: لفوا رأسي بثوب، فلما تعجبوا من طلبه قال: يوم البئيس لا أحب أن أراه! ما رأيت في الدنيا يومًا أشد من هذا، وما لبث أن قُتل، فانهارت قوى الروم، واستسلمت للهزيمة، ولما بلغ هرقل أخبار الهزيمة امتلأ قلبه رعبًا.
أروع البطولات
أبلى المسلمون في معركة أجنادين بلاءً حسنًا، وكانت من أروع البطولات التي شهدتها المعركة هو "ضرار بن الأزور" الذي بلغ جملة ما قتله من فرسان الروم ثلاثين فارسًا، كما قتلت "أم حكيم" الصحابية الجليلة أربعة من الروم بعمود خيمتها، وبلغ قتلى الروم في هذه المعركة أعدادًا هائلة تجاوزت الآلاف.
وبعد نصر جيش المسلمين في هذه المعركة، بعث خالد بن الوليد رسالة إلى الخليفة أبي بكر الصديق يُبشّره بالنصر وما أفاء الله عليهم من الظفر والغنيمة، وجاء فيها: "أما بعد فإني أخبرك أيها الصديق أننا حاربنا المشركين، وقد جمعوا لنا جموعا جمة كثيرة بأجنادين، وقد رفعوا صلبهم، ونشروا كتبهم، وتقاسموا بالله لا يفرون حتى يفنون أو يخرجونا من بلادهم، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله، فطاعناهم بالرماح، ثم صرنا إلى السيوف، فقارعناهم في كل فج.. فأحمد الله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنيع لأوليائه"؛ فلما قرأ أبو بكر الرسالة فرح بها، وقال: "الحمد لله الذي نصر المسلمين، وأقر عيني بذلك".
وبعد معركة أجنادين التي وقعت أحداثها في سنة 13 هـ تمكنت الجيوش الإسلامية من أن تتابع مسيرتها في فتوحات الشام، وأن تخرج من نصر إلى نصر حتى بسطت يدها على أجزاء عظيمة من بلاد الشام ضمّت "بعلبك" و"حمص" و"دمشق" و"البلقاء" و"الأردن" وأجزاء من "فلسطين".
ولم يكن أمام "هرقل" إمبراطور الروم سوى الاحتشاد لمعركة فاصلة بعد أن تداعت أجزاء غالية من دولته أمام فتوحات المسلمين، فبدأ يجهز لمعركة تعيد له هيبته وتسترد له ما اقتُطِع من دولته، وتجمعت أعداد هائلة من جنوده ومن يقدر على حمل السلاح من الروم، فأخذت تتقدم من إنطاكية -حيث يقيم- إلى جنوبي الشام.
ولما وصلت أنباء استعدادات الروم إلى أبي عبيدة بن الجراح جمع القادة يشاورهم ويستطلع رأيهم، وانتهى الحوار بينهم على انسحاب القوات الإسلامية من المدن التي فتحتها إلى موقع قريب من بلاد الحجاز، وأن تتجمع الجيوش كلها في جيش واحد، وأن يبعث أبو عبيدة بن الجراح إلى المدينة يطلب المدد من الخليفة عمر بن الخطاب الذي تولى الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق.
معركة اليرموك
بعد أن أخلى المسلمون مدينة حمص، جاءت قوات الروم، فدخلت حمص، ثم تحركت جنوبا خلال وادي البقاع إلى بعلبك، ولم تتجه إلى دمشق حيث يقيم المسلمون؛ وإنما اتجهت إلى الجنوب.
رأى المسلمون الذين كانوا يراقبون تحركات الروم أن في مسارهم هذا حركة التفاف تستهدف حصار المسلمين وقطع خط الرجعة عليهم؛ فاجتمع أبو عبيدة بقادته يتباحثون الأمر، فاتفقوا على الخروج من دمشق إلى الجابية، وهناك ينضم إليهم جيش عمرو بن العاص الرابط بفلسطين، وفي الوقت نفسه ينتظرون مدد الخليفة عمر بن الخطاب.
تقدمت مجموعات من جيش الروم إلى نهر الأردن باتجاه المسلمين في الجابية، وخشي المسلمون أن يحاصروا بقوات الروم المقيمة في الأردن وفلسطين والأخرى القادمة من إنطاكية؛ فيقطعوا خطوط إمداداتهم، ويحولوا بينهم وبين منطقة شمال الأردن والبلقاء التي تربطهم بالحجاز؛ ولهذا قررت الجيوش الإسلامية الانسحاب من الجابية إلى اليرموك.
تولَّى خالد بن الوليد القيادة العامة للجيش بتنازل من أبي عبيدة بن الجراح، الذي كان له السلطة العامة على جيوش المسلمين بالشام، وبدأ خالد في تنظيم قواته، وكانت تبلغ 46 ألف مقاتل، وقسَّم الجيش إلى كتائب.
أما جيش الروم فكان يضم نحو مائتي ألف مقاتل، ودعا أحد قادة الروم رجلاً من نصارى العرب، فقال له: ادخل في معسكر هذا القوم، فانظر ما هديهم، وما حالهم، وما أعمالهم، وما يصنعون، ثم ائتني فأخبرني بما رأيت. وخرج الرجل من معسكر الروم حتى دخل معسكر المسلمين فلم يستنكروه؛ لأنه كان رجلا من العرب، لسانه عربي ووجهه عربي، فمكث في معسكرهم، ثم رجع إلى قائده الرومي، وقال له: جئتك من عند قوم يقومون الليل كله، يصلون ويصومون النهار، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، رهبان بالليل فرسان بالنهار، لو يسرق مَلِكُهم لقطعوا يده، ولو زنا لرجموه؛ لإيثارهم الحق، واتباعهم إياه على الهوى.
فلما انتهى الرجل العربي من كلامه قال القائد الرومي: لئن كان هؤلاء القوم كما تزعم، وكما ذكرت لبطنُ الأرض خير من ظهرها لمن يريد قتالهم.
وفي فجر يوم الإثنين 5 من رجب 15 ه أصبح المسلمون طيبةً نفوسهم بقتال الروم، منشرحة صدورهم للقائهم، واثقة قلوبهم من نصر الله، وخرجوا بالنظام الذي وضعه القائد العام يحملون رايتهم.
وسار أبو عبيدة في المسلمين يحثُّ الناس على الصبر والثبات، يقول لهم: يا عباد الله انصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب؛ فلا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدءوهم بقتال، وأشرعوا الرماح، واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله حتى آمركم.
نتائج المعركة الفاصلة
لم ترهب جموع الروم المتلاحقة كالسيل العرم خالد بن الوليد، وقد سمع جنديا مسلما قد انخلع قلبه لمَّا رأى منظر الروم، يقول: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فانزعج من قولته وقال له: ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، أبالروم تخوّفني؟!
وبعد معركة شديدة انهار الروم تماما، وتملَّكهم الهلع فتزاحموا وركب بعضهم بعضا وهم يتقهقرون أمام المسلمين الذين يتبعونهم؛ حتى انتهوا إلى مكان مشرف على هاوية تحتهم، فأخذوا يتساقطون فيها ولا يبصرون ما تحت أرجلهم، وكان الليل قد أقبل والضباب يملأ الجو، فكان آخرهم لا يعلم ما يلقى أولهم، وبلغ الساقطون في هذه الهاوية عشرات الآلاف.
هكذا كانت معركة اليرموك من أعظم المعارك الإسلامية، وأبعدها أثرا في حركة الفتح الإسلامي، فقد لقي جيش الروم -أقوى جيوش العالم يومئذ- هزيمة قاسية، وقد أدرك هرقل حجم الكارثة التي حلت به وبدولته، فغادر المنطقة نهائيا وقلبه ينفطر حزنا، وهو يقول: "السلام عليك يا سوريا، سلاما لا لقاء بعده، ونعم البلد أنت للعدو وليس للصديق، ولا يدخلك رومي بعد الآن إلا خائفا".
وقد ترتب على هذا النصر العظيم أن استقر المسلمون في بلاد الشام، واستكملوا فتح مدنه جميعا، ثم واصلوا مسيرة الفتح؛ فضموا مصر والشمال الإفريقي.
كتبه
ايه سليمان